فصل: باب ما تجب فيه الكفارة من الإيمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء فيمن نذر المشي إلى بيت الله

قال أبو عمر هكذا ترجمة هذا الباب في الموطأ وفي معناه فيمن نذر المشي فمشى ثم عجز‏.‏

979- ذكر فيه مالك عن عروة بن أذينة الليثي أنه قال خرجت مع جدة لي عليها مشي إلى بيت الله حتى إذا كنا ببعض الطريق عجزت فأرسلت مولى لها يسأل عبد الله بن عمر فخرجت معه فسأل عبد الله بن عمر فقال له عبد الله بن عمر مرها فلتركب ثم لتمش من حيث عجزت قال مالك ونرى عليها مع ذلك الهدي قال أبو عمر ليس لعروة بن أذينة في الموطأ سوى هذا الخبر وهو عروة بن أذينة وأذينة لقب واسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمر الليثي من بني ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة قال كان شاعرا رقيق الشعر غزلا وكان مع ذلك صاحب فقه خيرا عندهم وروى عنه مالك وعبد الله بن عمر ولجده مالك بن الحارث رواية عن علي بن أبي طالب ويروى عروة بن أبي عامر مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن كانا يقولان مثل قول عبد الله بن عمر قال أبو عمر روى عطاء عن بن عمر خلاف رواية مالك عنه في حديث عروة بن أذينة ورواية عطاء أصح عند أهل العلم بالحديث ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء أن امرأة جاءت بن عمر فقالت له نذرت إلى الله أن أمشي إلى مكة فلم أستطع فقال فامشي ما استطعت واركبي ثم اذبحي وتصدقي إذا وصلت مكة فأمرها بالهدي ولم يأمرها بأن تمشي ما ركبت‏.‏

980- وذكر مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد أنه قال كان علي مشي فأصابتني خاصرة فركبت حتى أتيت مكة فسألت عطاء بن أبي رباح وغيره فقالوا عليك هدي فلما قدمت المدينة سألت علماءها فأمروني أن أمشي مرة أخرى من حيث عجزت فمشيت قال أبو عمر فيما ذكره مالك ما يوضح لك أن فتوى أهل مكة بالهدي بدلا من المشي وفتوى أهل المدينة بالمشي من حيث عجز من غير هدي وأجمع مالك عليه الأمرين جميعا احتياطا لموضع تعديه المشي الذي كان يلزمه في سفر واحد وجعله في سفرين قياسا على المتمتع والقارن -والله أعلم- فخالف بذلك الطائفتين معا إلا أنه قد روي مثل قول مالك عن طائفة من السلف ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن بن عباس أن رجلا نذر أن يمشي إلى مكة فإذا أعيا ركب فإذا كان عام قابل مشى ما ركب وركب ما مشى وأهدى بدنة قال أبو عمر كان نذره حجا فلذلك قال له فإذا كان عام قابل ولو كان في عمرة لم يؤخره إلى قابل لأن العمرة تقضى في كل السنة إلا في أيام عمل الحج ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أنه سئل عن رجل يمشي إلى الكعبة فمشى نصف الطريق وركب نصفا فقال عامر قال بن عباس يركب ما مشى ويمشي ما ركب من قابل ويهدي بدنة وخالف عبد الله بن الزبير في هذه المسألة عبد الله بن عباس فلم يوجب الهدي كقول سلف أهل المدينة ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا يعلى بن عبيد عن الأجلح عن عمرو بن سعيد البجلي قال كنت تحت ممشى بن الزبير وهو عليه فجاء رجل فقال يا أمير المؤمنين ‏!‏ إني نذرت أن أحج ماشيا فمشيت حتى إذا كان موضع كذا خشيت أن يفوتني الحج فركبت فقال بن الزبير ارجع عام قابل فاركب ما مشيت وامش ما ركبت وروي عن إبراهيم النخعي والحسن البصري عن كل واحد منهما روايتان إحداهما مثل قول بن عباس والأخرى مثل قول بن عمر وبن الزبير وعن الحسن رواية ثالثة كقول عطاء ذكرها بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام عن الحسن في رجل نذر أن يحج ماشيا قال يمشي فإذا انقطع ركب وأهدى فالثلاثة الأقوال مشهورة عن علماء السلف محفوظة أحدها يعود ويمشي من حيث ركب ولا هدي والثاني يهدي ولا يعود إلى المشي والثالث أن يعود فيمشي ثم يهدي روي هذا عن بن عباس من طريق ثابت وروي عن علي أيضا من وجه فيه ضعف وقد روي عن علي قول رابع فيمن نذر المشي إلى الكعبة في حج أو عمرة أنه يخير إن شاء مشى وإن شاء ركب وأهدى رواه قتادة عن الحسن عن علي والحكم بن عيينه عن إبراهيم عن علي وروى موسى بن عبيدة عن يزيد بن قسيط مثله قال الشافعي من نذر المشي إلى بيت الله لزمه إن قدر على المشي فإن لم يقدر ركب وأهراق دما احتياطا من قبل أنه إذا لم يطق شيئا سقط عنه وهو قول مالك في الهدي الواجب عنده في هذا الباب بدنة أو بقرة فإن لم يجد أهدى شاة هذا قوله في ‏(‏‏(‏الموطأ‏)‏‏)‏ وغيره‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه من حلف بالمشي إلى بيت الله أو إلى مكة ثم حنث إنه يمشي وعليه حجة أو عمرة فإن ركب في ذلك أجزأه وعليه دم وأجازوا له الركوب وإن لم يعجز عن المشي مع الدم وفي هذا الباب سئل عن الرجل يقول للرجل أنا أحملك إلى بيت الله فقال مالك إن نوى أن يحمله على رقبته يريد بذلك المشقة وتعب نفسه فليس ذلك عليه وليمش على رجليه وليهد وإن لم يكن نوى شيئا فليحجج وليركب وليحجج بذلك الرجل معه وذلك أنه قال أنا أحملك إلى بيت الله فإن أبى أن يحج معه فليس عليه شيء وقد قضى ما عليه قال أبو عمر السنة الثابتة في هذا الباب داله على طرح المشقة فيه عن كل متقرب إلى الله بشيء منه أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مخلد بن خالد قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن يزيد بن أبي حبيب أخبره أن أبا الخير حدثه عن عقبة بن عامر الجهني قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏لتمش‏)‏‏)‏ - يعني ما قدرت - ‏(‏ ‏(‏ولتركب‏)‏‏)‏ ولا شيء عليها قال أبو عمر لم يأمرها صلى الله عليه وسلم بهدي ولم يلزمها ما عجزت عنه ولم تقدر عليه حدثنا عبد الله قال أخبرنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام عن قتادة عن عكرمة عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال ‏(‏‏(‏إن الله تعالى لغني عن نذرها مرها أن تركب‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو داود وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وخالد الحذاء عن عكرمة ورواه همام عن قتادة ولم يذكر فيه فلتركب ولتهد وليس همام بحجة فيما خالفه فيه هشام عن قتادة‏.‏

وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا شيخه قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو خالد الأعور ومحمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن زحر عن أبي سعيد الرعيني عن عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي حاجة إلى بيت الله غير مختمرة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏(‏‏(‏مر أختك فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر يحتمل أن يكون حلفت مع نذرها وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها فأمرها بالصيام في كفارة يمينها وذلك بالموطأ في حديث بن عباس أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حجاج بن أبي يعقوب قال حدثنا أبو النضر قال حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب عن بن عباس قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها‏)‏‏)‏‏.‏

وأخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد‏.‏ وحدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قالا حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنيه فسأل عنه فقالوا نذر أن يمشي فقال ‏(‏‏(‏إن الله تعالى لغني عن تعذيب هذا نفسه‏)‏‏)‏ وأمره أن يركب زاد يزيد بن هارون فركب ولم يذكر واحد منهما هديا ولا صوما وروى هذا الحديث عمران القطان عن حميد عن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ‏(‏‏(‏إن الله تعالى لغني عن مشيها مرها فلتركب‏)‏‏)‏ ولم يذكر هديا ولا صوما والقول قول يحيى القطان ويزيد بن هارون عن حميد في هذا الحديث والله أعلم وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم في الرجل يقول للرجل أنا أحملك على أشفار عينيه قال يحج ويهدي بدنة وهذا نحو قول مالك وإنما أوجب أهل العلم في هذا الباب الهدي دون الصدقة والصوم وغيرها من أفعال البر والله أعلم لأن المشي لا يكون إلا في حج أو عمرة والقربات بمكة أفضلها إراقة دماء الهدايا في ذلك الوقت بمنى وبمكة إحسانا إلى مساكين الحرم ومن حضر من فقراء المسلمين والله أعلم‏.‏

وأما قول مالك عن الرجل يحلف بنذور مسماة مشيا إلى بيت الله أن لا يكلم أخاه أو أباه بكذا وكذا نذرا لشيء لا يقوى عليه ولو تكلف ذلك كل عام لعرف أنه لا يبلغ عمره ما جعل على نفسه من ذلك فقيل له هل يجزيه من ذلك نذر واحد أو نذور مسماة فقال مالك ما أعلمه يجزئه من ذلك إلا الوفاء بما جعل على نفسه فليمش ما قدر عليه من الزمان وليتقرب إلى الله تعالى بما استطاع من الخير قال أبو عمر لم يذكر هنا هديا لأنه قد سقط عنه ما لم يقدر عليه ويحتمل أن يكون قوله ويتقرب إلى الله بما استطاع من الخير الهدي فهو أصله في هذا الباب ويحتمل سائر نوافل الخير والله أعلم وبالله التوفيق‏.‏

باب العمل في المشي إلى الكعبة

981- ذكر فيه مالك أن أحسن ما سمعت من أهل العلم في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو المرأة فيحنث أو تحنث أنه إن مشى الحالف منهما في عمرة فإنه يمشي حتى يسعى بين الصفا والمروة فإذا سعى فقد فرغ وأنه إن جعل على نفسه مشيا في الحج فإنه يمشي حتى يأتي مكة ثم يمشي حتى يفرغ من المناسك كلها ولا يزال ماشيا حتى يفيض قال مالك ولا يكون مشي إلا في حج أو عمرة قال أبو عمر أما قوله أنه سمع أهل العلم ‏(‏في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله‏)‏ فهذا مذهبه ومذهب من سمع منه في التسوية بين الحالف بالمشي إلى الكعبة وبين الناذر وفي قوله ‏(‏‏(‏أحسن ما سمعت‏)‏‏)‏ بيان أنه سمع الخلاف في ذلك‏.‏

وأما الناذر فقد مضى الخلاف فيه ولا خلاف بين العلماء أن النذر الطاعة يلزم صاحبة الوفاء به ولا كفارة فيه‏.‏

وأما الحالف إلى مكة أو إلى بيت المقدس فنذكر الخلاف هنا بعون الله وفضله إن شاء الله‏.‏

وأما قوله في الحالف بالمشي وهو يريد الحج أنه يمشي - يعني من موضعه - حتى يأتي مكة ثم يقضي المناسك كلها فعلى هذا أكثر أهل العلم في الناذر دون الحالف ويأتي القول في الحالف بالمشي إلى الكعبة فيما بعد إن شاء الله ويروى عن بن عباس وعطاء بن أبي رباح أنهما قالا من جعل على نفسه المشي إلى بيت الله ركب من بلده فإذا جاء الحرم نزل إلى أن يطوف طواف - الإفاضة إن كان حاجا وإن كان معتمرا حتى يسعى بين الصفا والمروة وقد روي عن عطاء أنه يركب حتى يأتي الميقات - يعني ميقات بلده - ثم يمشي إلى أن يتم حجه أو عمرته وقال الحسن يمشي من الأرض التي يكون فيها وروي عن مجاهد مثله وقاله بن جريج وجماعة فقهاء الأمصار‏.‏

وأما قوله في المشي لا يكون إلا بحج أو عمرة فإن مكة لا تدخل إلا بإحرام وأقل الإحرام عمرة وقد شذ بن شهاب فأجاز دخولها بغير إحرام وسنذكر هذه المسألة في موضعها من كتاب الحج إن شاء الله‏.‏

وأما اختلاف العلماء في الحالف في المشي إلى مكة وإلى البيت الحرام فمذهب أبي حنيفة في ذلك كالمشهور من حديث مالك قال أبو حنيفة وأصحابه من حلف بالمشي إلى بيت الله أو إلى مكة أو إلى الكعبة فإنه يمشي وعليه حجة أو عمرة فإن ركب في ذلك أجزأه وعليه دم قال ولو حلف بالخروج أو الذهاب إلى الكعبة أو حلف بالمشي إلى الحرم أو الصفا والمروة ثم حلق لم يكن عليه شيء في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد حلفه بالمشي إلى الحرم كالكعبة ولا خلاف عن مالك في الحالف كذلك والناذر سواء وأنهما يلزمهما المشي من بلدهما في حج أو عمرة على سنتهما وعلى هذا جمهور أصحابه إلا رواية جاءت عن بن القاسم أفتى بها ابنة عبد الصمد رواها الثقات العدول أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي‏.‏

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن قاسم وأحمد بن خالد قالا أخبرنا قاسم بن محمد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم أخبره قال حلف أخي بالمشي إلى مكة في بيتي فحنث فسألت عبد الرحمن بن القاسم عن ذلك‏.‏

وأخبرته بيمينه فاشتد ذلك عليه وقال ما دعاه أن يحلف بهذا قلت قد فعل ‏!‏ قال مره أن يكفر فيمينه خبيثة ولا يعود قال عبد الله بن محمد بن علي قال لي أحمد بن خالد فذكرتها لابن وضاح فأنكرها وقال لي المعروف عن بن القاسم غير ذلك فقلت أخبرني به ثقة فقال من هو فقال قلت قاسم بن محمد فسكت أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا محمد بن الأصبغ يعرف بابن مليح قال حدثنا مقدام بن داود عن عمه سعيد بن تليد أن عبد الرحمن بن القاسم أفتى ابنه عبد الصمد وكان حلف بالمشي إلى مكة فحنث بكفارة يمين قال وحلف مرة أخرى بصدقة ما يملك وحنث فأفتاه بكفارة يمين وقال له إني قد أفتيتك بقول الليث فإن عدت فلا أفتك إلا بقول مالك قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي إذا حلف بالمشي إلى مكة أو بثلاثين حجة أو بصيام أوجبه على نفسه باليمين أو بغير ذلك من الأيمان سوى الطلاق فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك ففي قول أصحابنا كلهم كفارة يمين وليس عليه أكثر من ذلك وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد فإن حلف بطلاق فقد أجمعت الأمة على أن الطلاق لا كفارة له وأنه إن حنث في يمينه فالطلاق لازم له واختلفوا في العتق فقال أكثرهم الطلاق والعتق سواء لا كفارة في العتاق كما لا كفارة في الطلاق وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق وممن قال ذلك مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وإسحاق‏.‏

وقال أبو ثور من حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه وذلك أن الله تبارك وتعالى أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف فقال ‏(‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏)‏ ‏[‏المائدة 89‏]‏‏.‏

يعني فحنثتم فكل يمين حلف بها الإنسان فحنث فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أن مجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيء ما ولم يجمعوا على ذلك إلا في الطلاق فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة وألزمناه الطلاق للإجماع وجعلنا في العتق الكفارة لأن الأمة لم تجمع على أن لا كفارة فيه قال أبو عبد الله وقد روي عن الحسن وطاوس مثل قول أبي ثور والذي أذهب إليه ما قاله الشافعي وأحمد كفارة يمين في ما عدا الطلاق والعتق وقد روي عن عائشة ‏(‏‏(‏كل يمين ليس فيها طلاق ولا عتق فكفارتها كفارة يمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر الخلاف الذي ذكره أبو ثور في العتق هو ما رواه معتمر بن سليمان عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع أن مولاته حلفت بالمشي إلى مكة وكل مملوك لها حر وهي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل شيء لها في سبيل الله إن لم يفرق بينه وبين امرأته فسألت بن عمر وبن عباس وأبا هريرة وعائشة وحفصة وأم سلمة فكلهم قال لها كفري يمينك وخلي بينها وبينه ففعلت رواه عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان قال أبو عمر وقد روى يونس عن الحسن أنه جاءه رجل فقال إني جعلت كل مملوك لي حرا إن شاركت أخي قال شارك أخاك وكفر عن يمينك وهو قول القاسم وسالم وسليمان بن يسار وطاوس وقتادة وبه قال أبو ثور وذكر داود في الحالف بالمشي إلى مكة وبصدقة ماله أنه لا شيء عليه من كفارة ولا غيرها وهو قول الشعبي والحاكم والحارث العقيلي وبن أبي ليلى وبه قال محمد بن الحسن لأن الحالف ليس بناذر طاعة فيلزمه الوفاء بها ولا بحالف بالله فيجب عليه كفارة الحالف باليمين بالله ولا يخرج ماله عن نفسه مخرج القربة وإنما أخرجه مخرج الحنث في يمينه إن حنث وإن لم يحنث لم يخرجه وهذا لا يشبه النذر الذي يجب الوفاء به لما فيه من التقرب إلى الله وشكره وإنفاذ طاعته ولا هو في شيء من ذلك المعنى قالوا والحالف بغير الله ليس بحالف عندنا لأن الله تعالى قد نهى على لسان رسول صلى الله عليه وسلم أن يحلف بالأباء وأن يحلف بغير الله إن شاء الله وبالله التوفيق‏.‏

باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله تعالى

982- ذكر فيه مالك عن حميد بن قيس وثور بن زيد الديلي أنهما أخبراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال ‏(‏‏(‏ما بال هذا‏)‏‏)‏ فقالوا نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صيامه‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بكفارة وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية قال أبو عمر هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه من حديث جابر ومن حديث بن عباس ومن حديث قيس بن حازم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن حديث طاوس عن أبي إسرائيل - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأظن -والله أعلم- أن حديث جابر هو هذا لأن مجاهدا رواه عن جابر وحميد بن قيس صاحب مجاهد قال حدثناه أبو عمر أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر بن عبد الله قال كان أبو أسرائيل رجلا من بني فهر فنذر ليقومن في الشمس حتى يصلي النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة وليصومن ذلك اليوم فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏(‏‏(‏ما شأنه‏)‏‏)‏ فأخبروه فأمره أن يجلس ويتكلم ويصوم ولم يأمره بكفارة وفيه دليل على أن السكوت عن ذكر الله ليس من طاعة الله وكذلك الجلوس للشمس وفي معناه كل ما يتأذى به الإنسان مما لا طاعة فيه بنص كتاب أو سنة وكذلك الحفاء وغيره مما لم ترد الشريعة بصنعة إذ لا طاعة لله فيه ولا قربه وإنما الطاعة ما أمر الله ورسوله يتقرب بعمله إلى الله عز وجل ويدل أيضا أن كل ما ليس له بطاعة حكمه حكم المعصية في أنه لا يلزم الوفاء به ولا الكفارة عنه وهو معنى قول مالك في الموطأ‏.‏

983- مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن محمد بن الصديق عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه يحيى ‏)‏‏)‏‏.‏

قال يحيى وسمعت مالكا يقول معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يعصي الله فلا يعصه أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر أو إلى الربذة أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة إن كلم فلانا أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه أو حنث بما حلف عليه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة وإنما يوفى لله بما له فيه طاعة وهو قول من قال إن من نذر معصية كان عليه مع تركها كفارة يمين وممن قال بذلك أبو حنيفة وسفيان والكوفيون وإن احتج محتج بحديث عمران بن حصين وحديث عائشة جميعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين‏)‏‏)‏ قيل له هذان حديثان مضطربان لا أصل لهما عند أهل العلم بالحديث لأن حديث عائشة إنما يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث وعنه رواه بن شهاب لا يصح عنه غير ذلك وقد أوضحنا ذلك في التمهيد وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه زهير وزهير أيضا عنده مناكير ويدل هذا الحديث أيضا على صحة قول من ذهب إلى أن من نذر أن ينحر ابنه أنه لا شيء عليه من كفارة ولا غيرها لأنه لا معصية أعظم من إراقة دم مسلم ولا معنى للاعتبار في ذلك بكفارة الظهار في قول المنكر والزور لأن الظهار ليس بنذر والنذر في المعصية قد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا‏.‏

وأما العمل فهو ما في حديث جابر هذا‏.‏

وأما القول فحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏أنه من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏)‏ رواه جمهور رواة مالك عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه يحيى بن يحيى صاحبنا حدثنا خالد بن قاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يوسف بن يزيد قال حدثنا عبد الله بن عبد الحكم قال أخبرنا مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا كثيرا من طرقه عن مالك وغيره في التمهيد‏.‏

984- وذكر مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه سمعه يقول أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس فقالت إني نذرت أن أنحر ابني فقال بن عباس لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك فقال شيخ عند بن عباس وكيف يكون في هذا كفارة فقال بن عباس إن الله تعالى قال ‏(‏والذين يظاهرون منكم من نسائهم‏)‏ ‏[‏المجادلة 2‏]‏‏.‏

ثم جعل فيه من الكفارة ما قد رأيت قال أبو عمر روي هذا الخبر عن يحيى بن سعيد وسفيان الثوري وعبد الملك بن جريج كما رواه مالك سواء بمعنى واحد واختلفت الروايات عن بن عباس في هذه المسألة ففي رواية بن القاسم محمد عندنا قال ذكر مالك في حديثه هذا كفارة يمين تجزئه وروى عنه الشعبي في رجل نذر أن ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه قال وقال مرة يجزئ كبش كما فدى به إبراهيم ابنه قال الشعبي فسألت مسروقا فقال هذا من خطوات الشيطان لا شيء عليه وروى عنه عكرمة مولاه في الرجل يقول هو ينحر ابنه قال كبش كما فدى به إبراهيم إسحاق وروى عنه الحكم قال يهدي ديته أو قال يهدي كبشا ثم تلا ‏(‏وفديناه بذبح عظيم‏)‏ ‏[‏الصافات 107‏]‏‏.‏

وروى عنه طاوس في رجل نذر أن ينحر نفسه قال مائة بدنة وقد روى عكرمة عن بن عباس مثله في الذي ينذر أن ينحر ابنه مائة ناقة‏.‏

وقال مالك في المرأة التي نذرت أن تنحر ابنها قال إن نوت وجه ما ينحر من الهدي فعليها الهدي وإن لم تنو شيئا فلا شيء عليها وذكر بن عبد الحكم قال قال مالك من قال أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي قال ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراده فلا شيء عليه قال ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه قال الليث في الرجل أو المرأة يقول هو ينحر ابنه عند البيت قال يحج بابنه وينحر هديا وقد روي عن مالك مثل ذلك وغيره في مثله ذلك وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في رجل نذر أن ينحر ابنه فقال يهدي ديته وقد روي عن علي قال يهدي شاة واختلف فيه عن عطاء فروي عنه كبش وروي عنه بدنة وقال الشعبي فيمن نذر أن ينحر ابنه قال يحجه وعن عكرمة قال يذبح كبشا ويتصدق بلحمه وعن إبراهيم قال يحجه ويهدي بدنة وعن جابر بن زيد يهدي كبشا وعن إبراهيم أيضا أنه يحجه فقط رواه عنه حماد ومنصور وهذا كله من كتاب عبد الرزاق وكتاب بن أبي شيبة وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سفيان عن إسماعيل بن أميه عن عثمان وبن عباس وبن عمر قالوا يهدي جزورا قال حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن محمد بن المنتشر عن مسروق قال يهدي كبشا قال أبو عمر الرواية الأولى عن مسروق ذكرها أبو بكر عن عبد الرحمن بن سليمان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال هذا من خطوات الشيطان لا كفارة فيه قال أبو عتبة ومن حلف بنحر ولده أو ولده من بني آدم ثم حنث فعليه في ذلك - بنحر ولده - شاة وليس عليه في غير حلفه بنحر غير ولده شيء وقال محمد عليه في الحلف بنحره غيره مثل الذي عليه في الحلف بنحره ولده إذا حنث وقال أبو يوسف لا شيء عليه في ذلك كله وساقه الطحاوي وذكر عبد الرزاق عن الثوري في الرجل يقول للرجل أنا أهديك فيحنث قال أخبرني معمرة عن إبراهيم وفراس عن الشعبي أنهما قالا يحجه‏.‏

وقال مالك إن لم يرد الرجل أن يحجه فلا شيء عليه قال أبو عمر الصحيح عندي في هذه المسألة ما قاله مسروق وغيره وذلك سقوط الكفارة عن من نذر نحر ابنه أنه لا يلزمه في ذلك شيء من الأشياء لما ترك نحره لحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ونحر المسلم معصية لا شك فيه ومن جعل فيه كفارة يمين فللحديث لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين وهو حديث معلول وحديث عائشة أصح منه وأثبت وبالله التوفيق وروي عن علي بن المديني وغيره عن زيد بن الحباب عن حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا فنذرت امرأة سوداء إن ردة الله سالما أن تضرب عنده بالدف فرجع وقد غنم فقالت يا رسول الله ‏!‏ إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب عندك بالدف فقال إن كنت فعلت فافعلي وإلا فلا قالت فإني قد فعلت قال فضربت‏.‏

باب اللغو في اليمين

985- ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول لغو اليمين قول الإنسان ‏(‏لا والله‏)‏ و‏(‏بلى والله‏)‏ هكذا رواه يحيى عن مالك وتابعه القعنبي وطائفة ورواه بن بكير وجماعة عن مالك بإسناده فقالوا فيه لا والله وبلى والله وكذلك رواه جمهور الرواة عن هشام بن عروة وقد روي هذا الحديث عن عائشة وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير بمعنى حديث هشام عن أبيه سواء وأخطأ فيه عمر بن قيس فرواه عن عطاء عن عائشة بخلاف ذلك فذكره بعد ذلك عند ذكر قول مالك ورواه عن هشام جماعة أيضا منهم الثوري وشعبة وبن جريج ورواه عن عروة بن شهاب كما رواه ابنه هشام كما رواه ابنه هشام قال أبو عمر روى بن المبارك وعبد الرحيم بن سليمان وعبده بن سليمان وغيرهم بمعنى واحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت اللغو الذي ذكره لا والله وبلى والله ورواه يحيى بن سعيد القطان قال أخبرني هشام بن عروة قال أخبرني أبي عن عائشة في قوله تعالى ‏(‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏)‏ ‏[‏البقرة 225‏]‏‏.‏

نزلت في قول الرجل لا والله وبلى والله فذكر القطان السبب في نزول الآية ولم يذكره أحد من هؤلاء ولا غيره فمن قال لغو اليمين لا والله وبلى والله وما لا يعتقده قلب الحالف ولا يقصده عبد الله بن عمر وبن عباس في رواية عنه روى بن عيينة عن الزهري عن سالم أن بن عمر كان يسمع بعض ولده يحلف عشرة أيمان لا والله وبلى والله لا يأمره بشيء وهو قول الشعبي في رواية بن عون عنه وقول الحاكم وعطاء بن أبي رباح وأبي صالح وأبي قلابة وإبراهيم في رواية حماد عنه قال لغو اليمين ما يصل به الرجل كلامه والله لأكلن والله لأشربن وهو قول عكرمة وبن شهاب وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله تعالى ‏(‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏)‏ ‏[‏البقرة 225‏]‏‏.‏

قالت هم القوم يتدارؤون بقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله لا تعقد عليه قلوبهم وروى بن وهب عن يونس عن بن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحات والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وروى حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال بلى والله ولا والله لغة من لغات العرب قال أبو عمر وإلى هذا ذهب الشافعي والأوزاعي بلى والله ولا والله والحسن بن حي‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه اللغو لا والله وبلى والله فيما أظن أنه فيه صادق على الماضي وذكر الشافعي قول عائشة في اللغو أنه لا والله وبلى والله وقال اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه وهو معنى ما قالت عائشة قال مالك أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد على غير ذلك فهو اللغو وليس فيه كفارة وهو قول الليث وأحمد بن حنبل قال أبو عمر قد روي مثل قول مالك عن عائشة من طريق لا يثبت ذكره بن وهب عن عمر بن قيس عن عطاء عن عائشة وعمر بن قيس متروك الحديث ولم يتابع أيضا على ذلك وقد خالفه بن جريج وغيره عن عطاء فرواه على حسب ما رواه أنه قول الرجل لا والله وبلى والله ويقولون إن عطاء لم يسمع من عائشة غير هذا الحديث في حين مسيره إليها مع عبيد بن عمير وذكر بن وهب أيضا عن الثقة عنده عن بن شهاب عن عروة عن عائشة مثل رواية عمر بن قيس عن عطاء عن عائشة وهذا لا يصح لأن رواية بن وهب هذه عن الثقة عنده تعارضها رواية بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والحديث الذي لا يعقد عليه القول وهذا بمعنى رواية مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة دون ما ذهب إليه في معنى لغو اليمين ويروى مثل قول مالك أيضا في اللغو عن الحسن البصري وقتادة وزرارة بن أوفى ومجاهد ورواية عن الشعبي رواها عمرو بن دينار ورواية أيضا عن إبراهيم النخعي رواها عنه مغيرة ومنصور وفي اللغو قول ثالث وهو أن يحلف الرجل وهو غضبان رواه طاوس عن بن عباس وقول رابع قاله سعيد بن جبير قال هو الحلف على المعصية بتركها ولا كفارة عليه رواه عنه أبوبشر وعن بن عباس قول خامس قال هو الرجل يحلف فيقول هذا الطعام علي حرام فيأكله ولا كفارة عليه وروي مثله عن سعيد بن جبير قال هو أن يحرم الحلال رواه عنه داود بن أبي بشر أيضا مسألة أيضا قال مالك فأما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه آثم ويحلف على الكذب وهو يعلم ليرضي به أحدا أو ليعتذر به إلى معتذر إليه أو ليقطع به مالا فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة قال أبوعمر هذه اليمين الغموس وهي لا تصح إلا في الماضي أيضا وقد اختلف العلماء في كفارتها فأكثر أهل العلم لا يرون في اليمين الغموس كفارة وممن قال ذلك مالك وسفيان الثوري وأبو حنيفة والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل قالوا هو أعظم من أن يكون فيه كفارة وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏من حلف على منبري إنما يتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏من اقتطع مال امرئ بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار‏)‏‏)‏ وفي حديث بن مسعود ‏(‏‏(‏لقي الله وهو عليه غضبان‏)‏‏)‏ فذكر المأثم صلى الله عليه وسلم في اليمين الغموس ولم يذكر كفارة ولو كان فيها كفارة لذكرها والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي والأوزاعي والمعلى بن أسد وطائفة من التابعين فيما ذكر المروزي من تعمد فعليه الكفارة فيما بينه وبين الله فإن اقتطع بها حق امرئ مسلم أو ذمي فلا كفارة في ذلك إلا رد ما اقتطع والخروج مما أخذه ظلما لغيره فإذا فعل ذلك فهي توبة ويكفر بعد ذلك عن يمينه قال الشافعي والكفارة في هذا أوكد على من لم يتعمد الحنث بيمينه وقد جعل الله الكفارة في قتل الصيد على المتعمد وجاءت السنة لمن حلف ثم أجبر مما حلف عليه أن يحنث نفسه ثم يكفر وهذا قد تعمد الحنث فأمر بالكفارة قال أبو عمر من التابعين القائلين بأن المتعمد للكذب في يمينه يكفر الحكم بن عيينة وعطاء بن أبي رباح قال شعبة سألت الحكم وحمادا عن ذلك فقال حماد ليس لها كفارة وقال الحكم الكفارة خير وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن عتاب عن الحجاج عن عطاء قال يكفر قال أبو عمر الأيمان عند جماعة العلماء على ثلاثة أوجه منها وجهان في الماضي وهما اللغو والغموس ولا يكونان إلا في الماضي وقد مضى القول فيهما والوجه الثالث هو اليمين في المستقبل ‏(‏‏(‏والله لا فعلت‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏والله لأفعلن‏)‏‏)‏ لم يختلف العلماء أن على من حنث فيما حلف عليه من ذلك الكفارة التي ذكر الله في كتابه في قوله عز وجل ‏(‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏)‏ ‏[‏المائدة 89‏]‏‏.‏

يعني فحنثتم وقد عبر جماعة من العلماء عن اليمين في المستقبل بعبارة أخرى فقالوا هي أيضا في المستقبل يمينان يكفران فجعلوا لآخذ يمينا ولأفعلن يمين أخرى وقال جماعة من المدنيين والكوفيين الأيمان أربعة يمينان لا يكفران وهما اللغو والغموس فتنعقد على ما مضى ويمينان يكفران تنعقدان في المستقبل‏.‏

باب ما لا يجب فيه الكفارة من الأيمان

986- ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول من قال والله ثم قال إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث قال مالك أحسن ما سمعت في الثنيا أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه وما كان من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له قال أبو عمر حديث بن عمر هذا وقفه مالك عن بن عمر لم يتجاوزه به وكذلك رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر موقوفا ورواه أيوب بن موسى عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ‏)‏‏)‏ ورواه أيوب السختياني عن نافع عن بن عمر فمرة يرفعه ومرة لا يرفعه ومرة يقول لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه معمر عن بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث‏)‏‏)‏ وأجمع العلماء على أن الحالف إذا وصل يمينه بالله بالاستثناء وقال إن لنا الله فقد ارتفع الحنث عليه ولا كفارة عليه لو حنث وأجمعوا أن الاستثناء جائز في اليمين بالله واختلفوا في غيرها كما أجمعوا أن اللغو في اليمين بالله واختلفوا فيمن لم يصل استثناؤه يمينه‏.‏

وقال الشافعي له الاستثناء إذا كان قوله إن شاء الله موصولا بكلامه والوصل أن يكون كلامه نسقا وإن كان بينهما سكتة كسكتة الرجل للتذكر أو النفس أو القيء أو انقطاع الصوت فهو استثناء وهو أن يأخذ في الكلام ليس من اليمين أو سكت السكوت الذي يبين به أنه قطع كلامه قال أبو عمر على نحو هذا مذهب مالك وأصحابه وجمهور الفقهاء وهو قول الشعبي وعطاء وأكثر العلماء وكان قوم من التابعين يرون للحانث الاستثناء ما لم يقم من مجلسه منهم طاوس والحسن البصري وكان بن عباس يرى له الاستثناء أبدا متى ما ذكر ويتلو قول الله عز وجل ‏(‏واذكر ربك إذا نسيت‏)‏ ‏[‏الكهف 24‏]‏‏.‏

وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد قال أبو عمر يريدون ما لم يحنث الحالف يفعل ما حلف ألا يفعله ونحو هذا والحجة لمن ذهب مذهب بن عباس ما رواه مصعب وغيره عن سماك بن حرب عن عكرمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏والله لأغزون قريشا‏)‏‏)‏‏.‏

قالها ثلاث مرات ثم سكت ثم قال ‏(‏‏(‏إن شاء الله‏)‏‏)‏ وقد روي هذا الحديث عن عكرمة عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما قول مالك في هذا الباب في الرجل يقول كفر بالله أو أشرك بالله ثم يحنث أنه ليس عليه كفارة وليس بكافر ولا مشرك حتى يكون قلبه مضمرا على الشرك والكفر وليستغفر الله ولا يعد إلى شيء من ذلك وبئس ما صنع قال أبو عمر اختلف العلماء في هذه المسألة فأهل الحجاز لا يرونها يمينا ولا يوجبون فيها كفارة ويكرهونها وهو قول مالك والشافعي وبه قال أبوعبيد‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح من قال أنا يهودي أو نصراني أو كفرت بالله أو أشركت بالله أو برئت من الله أو برئت من الإسلام فهو يمين وعليه الكفارة إن حنث فهو تعظيم له كاليمين بالله وهو قول أحمد بن حنبل وممن رأى الكفارة على من قال هو يهودي أو نصراني أو نحو ذلك 00 عبد الله بن عمر وعائشة والشعبي والحسن ومجاهد وطاوس وإبراهيم والحكم وبه قال أحمد وإسحاق وقد روي عن إبراهيم أنه قال أخاف أن يكون كما قال وروي عن أبي هريرة من وجوه أنه قال فيمن حلف بملة غير الإسلام هو يهودي هو نصراني هو بريء من الإسلام فهو كما قال وروى أبو قلابة عن ثابت بن الضحاك الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من حلف على ملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر وهو حديث صحيح من جهة النقل ولكنه ليس على ظاهره ومعناه -والله أعلم- النهي من موافقة ذلك اللفظ وقال أبو جعفر محمد بن علي إذا قال هو يهودي هو نصراني هو مشرك بالله فليس بشيء وبه قال قتادة وأصح ما قيل به في هذا الباب والله الموفق للصواب أخبرنا عبيد بن محمد قال حدثنا الحسن بن سلمة قال حدثنا عبد الله بن الجارود قال حدثنا إسحاق بن منصور قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏من حلف منكم باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال تعال أقامرك فليتصدق‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر هذا حديث صحيح ثابت يدل على أن من حلف بملة غير الإسلام فليس كما قال ورواه معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

باب ما تجب فيه الكفارة من الإيمان

987- ذكر فيه مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من حلف بيمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك من قال علي نذر ولم يسمي شيئا إن عليه كفارة يمين قال أبو عمر قد مضت هذه المسألة في النذر المبهم في صدر هذا الكتاب مما للعلماء فيها فلا وجه لإعادتها‏.‏

وأما الآثار المرفوعة في هذا الباب فأكثرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏)‏‏)‏ وقدم الحنث قبل الكفارة في حديث عدي بن حاتم وأبي الدرداء وعائشة وعبد الله بن عمرو وأنس وعبد الرحمن بن سمرة وأبي موسى كل هؤلاء رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقالوا فيه ‏(‏‏(‏فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه بتبدية الحنث قبل الكفارة‏)‏‏)‏ وفي حديث أبي هريرة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تبدية الكفارة قبل الحنث كما رواه مالك‏.‏

وأما اختلاف الفقهاء في هذه المسألة فقال مالك والشافعي والليث بن سعد والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق لا بأس أن يكفر قبل الحنث‏.‏

وقال مالك والشافعي والثوري ولو حنث ثم كفر كان أحب إلينا قال أبو عمر روي جواز الكفارة قبل الحنث عن بن عمر وسلمان ومسلمة بن مخلد وأبي الدرداء وبن سيرين وجابر بن زيد قال أبو حنيفة وأصحابه لا تجزئ الكفارة قبل الحنث روي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أنهما كانا يرغبا أنفسهما فيما هو خير ثم يكفران وعن بن مسعود ومسروق وعبيد بن نمير مثله قال أبو عمر احتج الطحاوي لأبي حنيفة بأن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث فإن الكفارة لا تتعلق باليمين عند الجميع وإنما تتعلق بالحنث فوجب ألا تقدم قبل الحنث فهذا نقض لأصله في تقديم الزكاة فلا يحول وقال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه يجزئه أن يكفر بالفدية قبل الحلق وفي هذا الباب قال مالك فأما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين كقوله والله لا أنقصه من كذا وكذا يحلف بذلك مرارا ثلاثا أو أكثر من ذلك قال فكفارة ذلك كفارة واحدة مثل كفارة اليمين فإن حلف رجل مثلا فقال والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب ولا أدخل هذا البيت فكان هذا في يمين واحدة فإنما عليه كفارة واحدة وإنما ذلك كقول الرجل لامرأته أنت الطلاق إن كسوتك هذا الثوب وأذنت لك إلى المسجد يكون ذلك نسقا متتابعا في كلام واحد فإن حنث في شيء واحد من ذلك فقد وجب عليه الطلاق وليس عليه فيما فعل بعد ذلك حنث إنما الحنث في ذلك حنث واحد قال أبو عمر روى بن القاسم عن مالك مثل ما تقدم وزاد هي يمين واحدة وإن كانتا في مجلسين إذا كانتا على شيء واحد وقال سفيان الثوري إن حلف مرتين في شيء واحد فهي يمين واحدة إذا نوى يمينا واحدة وإن كانتا في مجلسين وإن أراد يمينا أخرى والتغليظ فيها فهي يمينان وقد روى عنه أنهما يمين واحدة وإن حلف مرارا وقال الأوزاعي إن حلف في أمر واحد بأيمان فعليه كفارة واحدة ما لم يكفر وقال عثمان البتي إن أراد اليمين الأولى فكفارة واحدة وإن أراد التغليظ فلكل واحدة كفارة وقال الحسن بن حي إذا قال والله لا أكلم فلانا والله لا أكلم فلانا في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن قال والله لا أكلم فلانا ثم قال والله لا أكلم فلانا فكفارتان وقال محمد بن الحسن إذا قال والله لا أفعل كذا والله لا أفعل كذا في الشيء الواحد فإن أراد التكرار فهن واحدة وإن لم يكن له نية وأراد التغليظ فهما يمينان قال وإن قال ذلك في مجلسين فهما يمينان‏.‏

وقال الشافعي في كل يمين كفارة إلا أن يريد التكرار وقال محمد بن الحسن والشافعي فيمن قال والله والرحمن لأفعلن كذا هما يمينان إلا أن يكون أراد الكلام الأول فيكون يمينا واحدة ولو قال والله والرحمن لأفعلن كذا هما يمينان قال مالك من قال والله الرحمن كانت يمينا واحدة وقال زفر قوله والله الرحمن يمين واحدة‏.‏

وقال مالك من قال والله الرحمن فعليه كفارتان وإن قال والسميع والعليم والحكيم فعليه ثلاث كفارات وكذلك لو قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته فعليه ثلاث كفارات ومن حلف بالله مرارا كثيرة يمينا بعد يمين ثم حنث فعليه كفارة واحدة فرق بين تكرار اسم واحد وبين الأسماء المختلفة قال أبو عمر وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن مجاهد قال خرج بن عمر وبعث غلاما له في وجه من الوجوه فأبطأ فقال له بن عمر إنك تغيب عن امرأتك تخرج كذا فطلقها قال لا والله لا أطلقها قال والله لتطلقنها قال والله لا أطلقها فقال والله لتطلقنها قال والله لا أطلقها قال فذهب عنه العبد قال مجاهد فذكرت له أيمانه قال إنها يمين وقال إبراهيم النخعي في الرجل يردد اليمين في الشيء الواحد قال عليه كفارة واحدة وقاله عطاء وعكرمة وحماد بن أبي سليمان وقال الحسن إذا حلف الرجل بأيمان شتى على أمر واحد فحنث فإنما عليه كفارة يمين واحدة فإن حلف أيمانا شتى في أشياء شتى في أيام شتى فعليه عن كل يمين كفارة هذا كله من كتاب بن أبي شيبة قال مالك الأمر عندنا في نذر المرأة إنه جائز بغير إذن زوجها يجب عليها ذلك ويثبت إذا كان ذلك في جسدها وكان ذلك لا يضر بزوجها وإن كان ذلك يضر بزوجها فله منعها منه وكان ذلك عليها حتى تقضيه قال أبو عمر هذا إذا كان على حسب ما ذكره مالك من أن نذرها لا يضر بزوجها كان عليها الوفاء به لا خلاف في ذلك بين العلماء فإن حال زوجها بينها وبين الوفاء بنذرها ذلك كان عليها قضاؤه بإجماع أيضا إذا كان غير مؤقت واختلفوا إذا كان مؤقتا بوقت فخرج الوقت على قولين أحدهما يجب والثاني لا يجب‏.‏

باب العمل في كفارة الأيمان

988- ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول من حلف بيمين فوكدها ثم حنث فعليه عتق رقبة أو كسوة عشرة مساكين ومن حلف بيمين فلم يؤكدها ثم حنث فعليه إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام قال أبو عمر لم يذكر مالك عن نافع في حديثه هذا عن بن عمر ما التوكيد وقد ذكره غيره ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن نافع قال كان بن عمر إذا حلف أطعم عشرة وإذا وكد أعتق فقلت لنافع ما التوكيد قال ترداد الأيمان في الشيء الواحد وذكر عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع قال كان بن عمر إذا وكد الأيمان وتابع بينها في مجلس أعتق رقبة قال‏.‏

وأخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر مثله قال أبو عمر قد بان لك ذا والتوكيد عنده التكرار وعتقه في التوكيد استحباب منه واختيار كأن يأخذ به في خاصة نفسه بدليل رواية مجاهد عنه وغيره في تكرار اليمين ولذلك لم يذكره مالك في الباب الأول والله أعلم وقد سوى الله في كل الأيمان بين العتق والإطعام والكسوة فما يفرق بين حكم اليمين المذكورة وبين غير الكفارة فقال ‏(‏فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة‏)‏ ‏[‏المائدة 89‏]‏‏.‏

وهذا الخبر لم يختلف العلماء فيه ومن استحب من ذلك شيئا فلا حرج وقد مضى في الباب قبل هذا حكم تكرار اليمين في الشيء الواحد مرارا في مجلس أو مجالس بما في ذلك من التنازع بين العلماء بما أغنى عن إعادته هنا والدليل على أن العتق كان من بن عمر استحبابا لخاصة نفسه أنه لم يكن يفتي به غيره وما رواه معمر عن الزهري عن سالم قال ولما قال بن عمر لبعض بنيه لقد حلفت عليك في هذا المجلس أحد عشر يمينا ولا يأمره بتكفير يعني غير كفارة واحدة ولم يذكر عتقا‏.‏

989- فذكر مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة وكان يعتق المرار إذا وكد اليمين‏.‏

وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أنه قال أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئا عنهم قال أبو عمر اختلف العلماء في مقدار الإطعام في كفارة اليمين فذهب أهل المدينة إلى ما حكاه مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار والمد الأصغر عندهم مد النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول بن عمر وبن عباس وزيد بن ثابت والفقهاء السبعة وسالم بن عبد الله بن عمر وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعطاء بن أبي رباح وبه قال مالك والشافعي وأصحابهما ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا حنث أطعم عشرة مساكين لكل مسكين مدا من حنطة بالمد الأول قال‏.‏

وحدثنا بن فضيل وبن إدريس عن داود عن عكرمة عن بن عباس في كفارة اليمين مد من بر ومعه إدامه قال‏.‏

وحدثنا وكيع عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير عن أبي سلمة عن زيد بن ثابت قال مد من حنطة لكل مسكين قال أبو حنيفة وأصحابه إن أعطاهم طعاما لم يجزئه إلا نصف صاع - لكل مسكين - من حنطة أو صاع تمر أو شعير قالوا فإن غداهم أو عشاهم أجزأه وروي نصف صاع عن عمر وعلي وعائشة - رضي الله عنهم - وهو قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وعطاء وبن سيرين وسعيد بن جبير وهو قول عامة فقهاء العراق قياسا على ما أجمعوا عليه في رواية الاوزاعي فقال مالك إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزاة ولا يجوز أن يعطيهم العروض وعلى أصل مالك يجوز أن يغديهم ويعشيهم بدون إدام لأن الأصل عنده مد دون إدام وقال الثوري والأوزاعي ويجزئه غدى أو عشى وهو قول إبراهيم وقال الحكم بن عتيبة لا يجزئ الإطعام حتى يعطيهم يريد أن يغدو كل واحد منهم بما يجب له من ذلك وقوله يعطيهم أي يعطي كل واحد منهم‏.‏

وقال الشافعي لا يجوز أن يطعمهم جملة ولكن يعطي كل مسكين مدا وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لا يجزئه إطعام العشرة وجبة واحدة غداء دون عشاء أو عشاء دون غداء حتى يغديهم ويعشيهم وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار وقول الشعبي وقتادة والنخعي وطاوس والقاسم وسالم وقال الحسن البصري إن أطعمهم خبزا ولحما أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه وهو قول بن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وروي ذلك عن أنس بن مالك‏.‏

وقال أحمد بن حنبل يجزئه أن يعطي لكل مسكين مدا من حنطة أو دقيق أو رطلين خبز أو مدين من شعير أو تمر ولا يجوز قيمة شيء من ذلك بحال قال أبو عمر من ذهب إلى مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين تأول قول الله عز وجل ‏(‏من أوسط ما تطعمون‏)‏ ‏[‏المائدة 89‏]‏‏.‏

أنه أراد الوسط من الشبع ومن ذهب إلى مدين البر أو صاع من شعير أو تمر ذهب إلى الشبع وتأول في ‏(‏أوسط ما تطعمون أهليكم‏)‏ ‏[‏المائدة 89‏]‏‏.‏

الخبز واللبن أو الخبز والسمن أو الخبز والزيت قالوا والأعلى الخبز واللحم فالأدنى خبز دون إدام فلا يجوز عندهم للأدنى لقول الله عز وجل ‏(‏من أوسط ما تطعمون‏)‏ المائدة 89‏.‏

وأما قول مالك أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين درعا وخمارا وذلك أدنى ما يجزئ كلا في صلاته وهو قول الليث قال ولا يجزئ ثوب واحد للمرأة ولا تجزئ العمامة للرجل وقال الثوري تجزئ العمامة‏.‏

وقال الشافعي تجزئ العمامة أو السراويل أو المقنعة قال أبو حنيفة وأصحابه الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء وروى بن سماعة عن محمد إن السراويل لا تجزئ وأنه لو حلف لا يشتري ثوبا فاشترى سراويل حنث إذا كان من سراويل الرجال وروي عن هشام عن محمد أنه لا تجزئ السراويل ولا العمامة وكذلك روى بشر عن أبي يونس‏.‏

باب جامع الأيمان

990- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر لم يختلف على مالك في هذا الباب أنه من مسند بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه العمريان عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه الزهري عن سالم عن بن عمر عن عمر قال سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي الحديث وذكر عبد الرزاق عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن بن عباس عن عمر قال كنت في ركب أسير في غزاة فذكر الحديث بمعناه وفي رواية الزهري عن سالم عن بن عمر مثله وزاد قال عمر فوالله ما حلفت به ذاكرا ولا آثرا وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا ينبغي اليمين بغير الله عز وجل وأن الحلف بالمخلوقات كلها في حكم الحلف بالآباء فإن قيل فإنما في القرآن من الإقسام بالمخلوقات نحو قوله تعالى ‏(‏والطور وكتاب مسطور‏)‏ ‏[‏الطور 1‏]‏‏.‏

‏(‏والتين والزيتون‏)‏ ‏[‏التين 1‏]‏‏.‏

‏(‏والسماء والطارق‏)‏ ‏[‏الطارق 1‏]‏‏.‏

وما كان مثله في القرآن قيل المعنى فيه ورب الطور ورب النجم فعلى هذا المعنى هي إقسام بالله تعالى لا بغيره وقد قيل في جواب ذلك أيضا قد أقسم ربنا تعالى بما شاء من خلقه ثم بين النبي عليه السلام مراد الله تعالى من عباده أنه لا يجوز الحلف بغيره لقوله ‏(‏‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر لا ينبغي لأحد أن يحلف بغير الله لا بهذه الأقسام ولا غيرها لإجماع العلماء أن من وجبت له يمين على آخر في حق قبله أنه لا يحلف له إلا بالله ولو حلف له بالنجم والسماء والطارق وقال نويت رب ذلك لم يكن عندهم يمينا وفي غير رواية يحيى عن مالك أنه بلغه عن بن عباس أنه كان يقول لأن أحلف بالله بإثم أحب إلي من أن أظاهر فالمظاهرة أن يحلف بغير الله تعظيما للمحلوف به فشبه خلق الله به في التعظيم قال الله تعالى ‏(‏يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏)‏ ‏[‏التوبة 30‏]‏‏.‏

ومعناه أن أحلف بالله فآثم أي فأحنث أحب إلي من أن أحلف بغيره فأبر وقد روي عن بن عمر وبن مسعود قالا لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا وروى بن جريج عن بن أبي مليكة أنه سمع بن الزبير يقول سمعني عمر أحلف بالكعبة فنهاني وقال لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك وقال قتادة يكره الحلف بالمصحف وبالعتق والطلاق وأجاز بن عمر والحسن وإبراهيم اليمين ‏(‏‏(‏بأيم الله وأجاز عطاء وإبراهيم ‏(‏‏(‏لعمري‏)‏‏)‏ وكره إبراهيم ‏(‏‏(‏لعمرها‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر حديث هذا الباب يرد قول من أجاز اليمين بغير الله وهو الأصل وقال أهل الظاهر من حلف بغير الله وهو عالم باليمين فهو عاص لله ولا كفارة عندهم في غير اليمين بالله - عز وجل - والذي عليه الجمهور من سلف العلماء وخلفهم تطلب الكفارة في وجوه كثيرة من الأيمان بغير الله نذكرها في هذا الباب - إن شاء الله - وهم مع ذلك يستحبون اليمين بالله ويكرهون اليمين بغيره وهذا عمر وبن عمر يوجبان كفارة اليمين فيمن حلف بغير الله وهما رويا الحديث عن النبي عليه السلام أنه نهى عن الحلف بالآباء وقال ‏(‏‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله‏)‏‏)‏ فدل أنه على الاختيار لا على الإلزام والإيجاب وروى يزيد بن زريع عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن تسألني القسمة لم أكلمك أبدا وكل مالي في رتاج الكعبة فقال عمر بن الخطاب إن الكعبة لغنية عن مالك كفر يمينك وكلم أخاك وهو قول بن عمر وبن عباس وزيد بن ثابت وعائشة وحفصة وسعيد بن المسيب وجماعة من علماء التابعين بالمدينة والكوفة وسترى كثيرا من ذلك في هذا الباب إن شاء الله والكفارة على من حلف بما لا إثم فيه أوكد لأن الكفارة لمحو الإثم وهي منزلة فيمن حلف وحنث نفسه فيما يرى خيرا له‏.‏

وأما قول مالك فيمن حلف بماله في رتاج الكعبة فخلاف للجماعة وكأنه زاد من وجه ما لا يعزو عليه أو لا يصلح وقد زدنا هذه المسألة بيانا في آخر هذا الكتاب وذكر بن حبيب عن مالك أنه كان يقول في من جعل ماله في رتاج الكعبة فقول عائشة ثم رجع عنه إلا أنه لا شيء عليه وقوله الأول عليه الجمهور من السلف والخلف وليس قوله الذي رجع إليه بقياس ولا اتباع حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثنا أبي قال حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون‏)‏‏)‏ وحديث هذا الباب ناسخ لما رواه إسماعيل بن جعفر عن إسماعيل عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي النحوي قال فيه أفلح - وأبيه - إن صدق إن صحت هذه اللفظة لأن مالكا رواه عن عمه أبي سهيل بإسناده فقال فيه أفلح إن صدق ولم يقل وأبيه ومالك لا يقاس به مثل إسماعيل بن جعفر في حفظه وإتقانه وقد مضى في هذا الكتاب ما للعلماء من الاختلاف في كفارات الأيمان بغير الله فلا وجه لإعادة ذلك هنا وقد بسطنا القول في الأيمان ووجوهها وما للعلماء من التنازع فيها في مواضع في التمهيد منها حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح ومنها حديث نافع هذا والحمد لله‏.‏

991- وذكر مالك في هذا الباب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ‏(‏‏(‏لا ومقلب القلوب‏)‏‏)‏ وهذا الحديث يستند وينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه من حديث بن عمر وحديثه عبد الله بن عمر وحديث عائشة وحديث أم سلمة وحديث النواس بن سمعان وقد ذكرناها أو أكثرها بأسانيدها في التمهيد قال أبو عمر هذا يدل على صحة قول الفقهاء أن الحلف بصفات الله تعالى جائز تجب فيها الكفارة لأنها منه تعالى ذكره أخبرنا خلف بن أحمد قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا علي بن معبد قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر قال كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها كثيرا ‏(‏‏(‏لا ومقلب القلوب‏)‏‏)‏‏.‏

992- وأما حديث مالك عن عثمان بن حفص بن عمر بن خلدة عن شهاب أنه بلغه أن أبا لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه قال يا رسول الله أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك وأنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏يجزيك من ذلك الثلث‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر اختلف في قصة أبي لبابة هذه متى وقعت فقيل كان ذلك في حين أشار إلى بني قريظة ألا ينزل على حكم سعد بن معاذ وأومأ إلى حلقه أنه الذبح ثم ندم وأتى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فربط نفسه بسارية منه وأقسم ألا يحل حتى يقبل الله توبته وقيل بل كان ذلك من أبي لبابة حين تخلفه عن غزوة تبوك هو ونفر معه قيل خمسة وقيل ستة وقيل سبعة سواه وفيه نزلت ‏(‏وأخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا‏)‏ ‏[‏التوبة 102‏]‏‏.‏

فالسيئ كان تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجهم إلى الجهاد والعمل الصالح اعترافهم بالذنب وتوبتهم منه وهذا عندي أصح فيما جاء عن حديثهم عنه من هجرته دار قومه التي أصاب فيها الذنب وهي المدينة دون دار بني قريظة وروى عبد الرزاق وأبو يوسف ومحمد بن ثور عن معمر عن الزهري قال كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية وقال والله لا أحل نفسي منها حتى أموت ولا أذق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا على ه ثم تاب الله عليه فقيل له ذلك فقال لا أحل نفسي حتى يحلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال أبو لبابة يا رسول الله ‏!‏ إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله قال يجزيك الثلث يا أبا لبابة‏.‏

993- وذكر مالك عن أيوب بن موسى عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها سئلت عن رجل قال مالي في رتاج الكعبة فقالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين قال مالك في الذي يقول مالي في سبيل الله ثم يحنث قال يجعل ثلث ماله في سبيل الله وذلك للذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة قال أبو عمر اختلف العلماء في الحالف بصدقة ماله على المساكين أو في سبيل الله أو في كسوة الكعبة أو نحو ذلك من أعمال البر فقال مالك ما تقدم ذكره أنه يجزئه أن يتصدق بثلث ماله إن حنث وقال في غير الموطأ من حلف بصدقة من ماله بعينه لزمته الصدقة به وإن كان أكثر من الثلث ولا يقضي به عليه إلا أن يكون لرجل بعينه يطالبه به في غير يمين على اختلاف في ذلك عنه واضطراب‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه هذا عندنا على أموال الزكاة يريدون الحرث والعين والماشية يخرج الحال فذلك كله إذا حنث في يمينه وقال إبراهيم النخعي هو في كل شيء من ماله وهو قول زفر قالا يحبس لنفسه من ماله قوت شهر ثم يتصدق بمثله إذا أراد وقال الأوزاعي فيمن قال حالفا في غضب علي ‏(‏مائة بدنة‏)‏ قال كفارة يمين وقال الليث بن سعد فيمن جعل ماله صدقة للمساكين أو في سبيل الله إن كان حلف بذلك فحنث فإنه يكفر كفارة يمين وإن كان إنما هو شيء جعله لله على نفسه على وجه الشكر والتقرب إلى الله تعالى فإن ما عليه أن يخرج ثلث ماله وقد روى عنه بن وهب فيمن حلف بصدقة ماله في الرضا والغضب ثم يحنث قال يكفر كفارة يمين وهو قول عطاء‏.‏

وقال الشافعي إذا قال مالي في سبيل الله فعليه كفارة يمين وهو قول عطاء وطاوس والحسن وعكرمة وقال ربيعة يزكي ثلث ماله قال أبو عمر قد اختلف السلف من العلماء في هذه المسألة فروي عن عمر بن الخطاب وعائشة وبن عباس في من جعل ماله في المساكين أو في رتاج الكعبة أنه يكفر كفارة اليمين بالله عز وجل وقال بن عباس يكفر ماله وينفق ماله على عياله وقد روي عن القاسم وسالم فيمن حلف بصدقة ماله أو بصدقة شيء من ماله قال يتصدق به على بناته وهذا يشبه عندي قول من قال لا يلزمه شيء لأنه لم يرد به القربة إلى الله تعالى ولا أنه على سبيل النذر وهو قول الشعبي والحكم والحارث العكلي وحماد بن أبي سليمان وبن أبي ليلى وطائفة من المتأخرين ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن الشعبي والحارث العكلي والحكم عن رجل جعل ماله في المساكين صدقة في يمين حلف بها قالوا ليس بشيء وقد روي عن الشعبي أنه تلزمه الصدقة بماله كله مثل قول إبراهيم وقال شعبة سألت الحكم وحمادا عن الرجل يقول إن فارقت عزيمتي فمالي عليه في المساكين صدقة قالا ليس بشيء وقال بن أبي ليلى وعن بن عمر فيمن حلف بصدقة ماله أنه يلزمه إخراج ماله كله ذكر معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر في رجل جعل ماله في سبيل الله إن لم يفعل كذا ثم حلف قال ماله في سبيل الله وقد روي عن بن عمر خلاف ذلك ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن إسماعيل بن أمية أن عثمان بن أبي حاضر قال حلفت امرأة من أهل ذي أصبح فقالت مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم يفعل كذا وكذا لشيء كرهه زوجها أن يفعله فسئل عن ذلك بن عمر وبن عباس فقالا أما الجارية فتعتق‏.‏

وأما قولها مالي في سبيل الله فلتتصدق بزكاة مالها قال أبو عمر بهذا قال ربيعة‏.‏

وحدثنا سعيد بن عثمان النحوي قال حدثنا أحمد دحيم قال حدثنا البغوي قال حدثنا داود بن عمر قال حدثنا مسلم بن خالد عن إسماعيل بن أمية عن رجل يقال له عثمان بن حاضر قال إسماعيل - وكان رجلا صالحا فاضلا - أن رجلا قال لامرأة اخرجي في ظهري فأبت أن تخرج فلم يزل الكلام بينهما حتى قالت جاريتها حرة وهي تنحر نفسها وكل مال لها في سبيل الله إن خرجت ثم بدا لها فخرجت قال بن حاضر فأتتني تسألني فأخذت بيدها فذهبت بها إلى بن عباس فقصصت عليه القصة فقال بن عباس أما جاريتك فهي حرة‏.‏ وأما قولك تنحري نفسك فانحري بدنة وتصدقي بها على المساكين‏.‏

وأما قولك مالك في سبيل الله فاجمعي مالك كله فأخرجي منه كل ما يجب فيه من الصدقة قال ثم ذهبت بها إلى بن عمر فقال لها مثل ذلك ثم ذهبت بها إلى بن الزبير فقال لها مثل ذلك قال وأحسب أنه قال ثم ذهبت بها إلى جابر بن عبد الله فقال مثل قولهم‏.‏

وأما الثلاثة فقد أثبتهم عن الزهري في هذه المسألة ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا معن بن عيسى عن بن أبي ذئب عن الزهري قال من قال كل مالي في سبيل الله فحاد فهو جاني عليه وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال لم أسمع في هذا شاهدا أحسن مما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي لبابة ‏(‏‏(‏يجزئك الثلث‏)‏‏)‏ ولكعب بن مالك قال له ‏(‏‏(‏أمسك لك بعض مالك‏)‏‏)‏ وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن رجلا جعل ماله في رتاج الكعبة فقال بن عمر ثم قلت قال فذهبت إلى عمر فقال أطعم عشرة مساكين فرجعت إلى بن عمر فقلت له ما قال أبوه فقال هذا علم وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أبان وسليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع أنه سمع بن عمر سألته امرأة فقالت إني حلفت فقلت هي يوما يهودية ويوما نصرانية ومالها في سبيل الله وأشباه هذا فقال بن عمر كفري يمينك وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال سئل عطاء عن رجل حلف فقال علي ألف بدنة قال يمين وعن رجل قال علي ألف حجة قال يمين وعن رجل قال مالي هدي قال يمين وعن رجل قال مالي في المساكين قال يمين وعن معمر عن قتادة عن جابر بن زيد أنه سئل عن رجل جعل ماله هديا في سبيل الله فقال إن الله تعالى لم يرد أن يغتصب أجر ماله فإن كان كثير المال فليهد خمسه وإن كان وسطا فسبعة وإن كان قليلا فعشرة وقاله قتادة قال قتادة الكثير ألفان والوسط ألف والقليل خمسمائة وعن معمر عن بن طاوس عن أبيه فيمن قال ماله في رتاج الكعبة أو في سبيل الله قال هي يمين يكفرها قال معمر وقاله الحسن وعكرمة قال معمر أحب إلي إن كان موسرا أن يعتق رقبة وروى معمر عن قتادة في رجل قال علي عتق مائة رقبة قال يعتق رقبة واحدة وقال عثمان البتي يعتق مائة رقبة كما قال وعبد الرزاق عن بن التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني قال أخبرني أبو رافع قال قالت لي مولاتي ليلى ابنة العجماء كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم يطلق امرأته قال فأتينا زينب بنت أم سلمة وكان إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب فذكرت ذلك لها فقالت خلي بين الرجل وبين امرأته وكفري يمينك قال فأتينا حفصة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا أم المؤمنين - جعلني الله فداك - وذكرت لها يمينها فقالت كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته قال وأتينا عبد الله بن عمر فقلنا يا أبا عبد الرحمن وذكرت له يمينها فقال كفري يمينك وخلي بين الرجل وامرأته وروى بن وهب عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن ثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع وكان أبو رافع عبدا لليلى بنت العجماء بنت عمة لعمر بن الخطاب أن سيدته قالت مالها هدي وكل شيء لها في رتاج الكعبة وهي محرمة بحجة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم تطلق امرأته فانطلقت إلى حفصة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - ثم إلى زينب بنت أبى سلمة ثم إلى عبد الله بن عمر وكلهم يقولون لها كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته قال أبو عمر ليس في رواية بن وهب هذا الخبر كل مملوك لها حر وهو في رواية سليمان التيمي وأشعث الحمراني عن بكر المزني في هذا الحديث وفي رواية أشعث في هذا الحديث بن عباس وأبو هريرة وبن عمر وحفصة وعائشة وأم سلمة وإنما هي زينب بنت أم سلمة أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا سلمة بن شبيب قال سمعت الحميدي يقول إذا حلف الرجل في الغضب بعتق رقبة أو جميع ماله في المساكين هدية والمشي إلى بيت الله يجزئه كفارة يمين حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا محمد بن عمر العربي قال حدثنا زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان الثوري في الرجل يقول ماله في المساكين صدقة وكل شيء له في سبيل الله قال كفارة يمين وبهذا الإسناد قال بن وضاح أخبرنا محمد بن عمرو قال حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في الرجل يقول ماله في المساكين صدقة ويحلف بذلك وكل شيء له في سبيل الله يحلف بذلك قال كفارة يمين وبه يقول محمد بن عمرو قال بن وضاح‏.‏

وحدثنا زهير بن عباد قال حدثنا هشيم بن بشير عن مطرف عن الشعبي والحكم والحارث العكلي أنهم قالوا في رجل قال كل مال لك في المساكين صدقة فحنث قالوا ليس بشيء قال‏.‏

وحدثنا موسى بن معاوية قال حدثنا علي بن زياد عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن فيمن حلف في كل ما يملكه في سبيل الله وفي المساكين فحنث قال يطعم عشرة مساكين قال سفيان وبه نأخذ قال بن وضاح‏.‏

وحدثنا أبو زيد بن أبي العمر في الرجل يحلف بماله في المساكين أو كل شيء له في سبيل الله قال أما أنا فأقول عليه كفارة يمين ويجزئه إن شاء الله قال بن وضاح‏.‏

وحدثنا أبوالطاهر أحمد بن عمرو بن السرح قال سألت عبد الله بن وهب عن الرجل يقول كل شيء له في سبيل الله إن فعلت كذا ثم يفعله قال يخرج ثلث ماله عند مالك قلت لابن وهب فإن أدى زكاة ماله أو أخرج كفارة يمينه أتراه مجزئا عنه لما فيه من الاختلاف فقال أرجو أن يجزئه إن شاء الله قال أبو الطاهر وسمعت بن وهب غير مرة يفتي به في هذا بعينه وكان ربما أفتى أن الحالف إن كان موسرا أخرج ثلث ماله وإن كان معسرا أخرج زكاة ماله وإن كان مقلا أخرج كفارة يمينه وكان يستحسن ذلك وفي سماع رومان عبد الملك بن الحسن من بن وهب أنه سئل عن الرجل يخلف بأشد ما أخذه أحد عن أحد ثم يحلف قال يجزئه كفارة يمين أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله ‏!‏ أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه عن يمينه ثم جاءه عن يساره ثم من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفه بها فلو أصابته لوجعته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستلف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى قال أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا بن إدريس عن بن إسحاق بإسناده ومعناه وزاد ‏(‏‏(‏خذ عنا مالك لا حاجة لنا به‏)‏‏)‏ وقال حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال حدثنا سفيان عن بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد سمع أبا سعيد الخدري يقول دخل رجل المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا فطرحوا ثيابا فأمر له منها بثوبين ثم حث على الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح النبي صلى الله عليه وسلم به وقال ‏(‏‏(‏خذ ثوبك‏)‏‏)‏‏.‏

وأما ما رواه عن عائشة فيمن قال مالي في رتاج الكعبة أنه يكفره ما يكفر اليمين فهو مذهب جمهور العلماء القائلين بكفارة اليمين في من حلف بصدقة ماله وهو قول الشافعي ومن ذكرنا معه على حسب ما تقدم في هذا الباب عنهم‏.‏

وأما الكوفيون فمنهم من يوجب عليه أن يتصدق بماله كله إذا قال مالي في رتاج الكعبة على حسب ما ذكرنا عنهم في هذا الباب فيمن حلف بصدقة ماله ومالك لا يراه شيئا لأنه لا يمكنه وضعه في رتاج الكعبة ولا يحتاج رتاج الكعبة إليه فكأنه عنده من معنى اللغو أو اللعب كما لو قال مالي في البحر وأصله الذي بنى عليه في الأيمان مذهبه أن كل يمين فيها بر وخير فهي عنده كالنذر تلزم حالفها الكفارة كما تلزمه الوفاء بها إن نذر وما لا بر فيه ولا طاعة فلا يفي به إن نذره ولم ير قول من قال مالي في رتاج الكعبة من البر والطاعة ولا هي عنده يمين فيكفرها ولا نذر طاعة فيفي به وهذا تحصيل مذهبه فقد روى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك قال مالي في رتاج الكعبة قال قالت عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - ما يكفره اليمين وما هو عندي بالممكن إن هو كفر أن يكون ذلك مجزيا عنه وهو حقيق قال أبو عمر يعني المشهور من مذهب عائشة فيمن قال مالي في سبيل الله أنه يجزئه الثلث بلا نحر فما دونه وهو خلاف لما روى مالك وروى عنه سائر أصحابه فيمن قال مالي في رتاج الكعبة قال وقال مرة أخرى من قال مالي هدي إلى الكعبة فالثلث يجزئه قال أبو عمر الذي قالت عائشة - رضي الله عنها - عليه جمهور العلماء وبالله التوفيق تم كتاب النذور والأيمان والحمد لله رب العالمين ‏(‏23كتاب الضحايا‏)‏ بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما‏.‏